الحق المبين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الحق المبين

دينى
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 كتاب التوهم ( الجزء الأول )

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/02/2014

كتاب التوهم ( الجزء الأول ) Empty
مُساهمةموضوع: كتاب التوهم ( الجزء الأول )   كتاب التوهم ( الجزء الأول ) Emptyالثلاثاء فبراير 25, 2014 12:06 pm

[b]كتاب التوهم
( توهم حال أهل النار ، وتوهم حال أهل الجنة )
للحارث المحاسبي
أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي
توفي سنة 243 هـ

تحقيق المستعصم بالله أبي هريرة
مصطفى بن علي بن عوض جعفر



بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهدي الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ، هازم الأحزاب وحده ، ناصر دينه ولو كره الكافرون .
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، أدى أمانة ربه ، وبلغ الرسالة ، فجزاه الله أعظم الخير كله . ثم أما بعد .
في وقت تطغى فيه الماديات ، وتزداد فيه بريق الفتن ، ويعم ظهور الفساد في البرِّ والبحر حتى يكاد أن يصل إلى منتهاه ، أقول في وقت مثل هذا فإنه ينبغي أن يكون لنا وقفة ووقفات للذكرى وللعودة وللإنابة ، فإنه يجب على المسلم أن يتجلد ويتصبر بالله ، وأن يملئ قلبه بالإيمان ، وما يسبب الإيمان ، وما يحفظه .
وإن من أعظم المثبتات الذكرى ، فإن الإنسان مأتاه من أحد البليَّتين ، النسيان أولهما ، وثانيهما الفتور وعدم العزم ، فقد قال ربنا ، وهو أصدق القائلين ﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ﴾ .
فإن الذي ينسى لماذا يطيع الله ، أو لماذا يسير في طريق ما ، فإنه يدخله السآمة والفتور عن الالتزام أو السير ، فسريعاً ما يحدث له الانقلاب على عقبيه ﴿ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ﴾ .
ولأن أمر النسيان من أعظم ما يهدم المسلم ، فإن أعداء الله باختلاف مللهم وألسنتهم دائماً يحاربون الدعوة والتذكير بأمر الله تعالى .
ولما كان هذا مأربهم ، كانت العودة إلى التذكر لزاماً على المسلم ، بل والسعي إليها والهرولة . فإن ربنا الكريم قال ﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ .
وإن أعظم الذكرى ما ورد عن الله تعالى في كتابه ، فانظر إلى ما قال الله تعالى ﴿ إن عذاب ربك لواقع ، ما له من دافع ﴾ ، وانظر إلى قوله ﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ﴾ .
ثم انظر إلى ما جاء عن النبي r من طريق صحيح .
ثم إنه ومن قبيل ﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ﴾ ، فإننا قد وجدنا لقوم ذكر وخوف من الله ، وكلمات في التذكير قد وافقت ما أنزل الله ، فكانت هذه الكلمات رسالة لنا تبين لنا كيف خشع هؤلاء لله الواحد القهار ؟ لِمَ بكوا من خشيت الله . كما كانت رسالة لنا تقول :
هل هم أولى بالله منا ؟
هل نحن مستغنون عن الله ، وهم إليه فقراء ؟
تقول لنا : أن ما فعلوه كان في وسع طاقتهم ، فما ينبغي أن نفعله ـ وهو الخشية ـ في وسعنا ، فلِمَ يُعرض الإنسان عن التذكرة والإنابة ؟ !!
وإن من الكتب التي أحدثت عندي ذكرى وأحسست في قراءته بموعظة بليغة ، كتاب أحسست في قراءته :
كأنني في الجنة وفي نعيمها ـ والجنة أعظم نعيماً من ذلك ـ ، فازددت لها شوقاً ، وازداد يقيني بأن ما عند الله خير مما ذكر صاحب الكتاب ، فكيف بما عند الله ؟!!
ثم وجدت الكتاب نقلني إلى النار وما فيها من عذاب ، فكأني أراها وكأني بداخلها ـ أسأل الله لي ولكم السلامة ـ فازداد يقيني بأنني لا طاقة لي بها ، وأنها كما جاء في الحديث : " قال : فمم يتعوذون ؟ قال : يقولون : من النار . قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله يا رب ما رأوها ؟ قال : يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة " . فازداد قراري بالفرار منها والبعد عنها وأسأل الله العون .
فلما وجدت ذلك أردت للقارئ الكريم أن يكون معي من المقررين الرجوع إلى الله , وأن نكون سوياً من المعاهدين الله الثبات على أمره ، وأن نكون من الفارَّين بكل قوتنا من النار .
وكان هذا الكتاب وهو ( التوهم ) للحارث المحاسبي ، فعلقت عليه بعض التعليقات وخدمت ما به من الأحاديث ، ثم أردت أن أذكر الأحاديث التي منها ساق معلوماته عن الجنة أو النار أو أمر الساعة ، فكل هذا غيب لا يستطيع أي عالم أن يتكلم فيه بالنظر أو بالفهم ، وإنما هو غيب موقوف ، فوجدت أن ذلك سيطيل الكتاب ، فاكتفيت بما ذكرت على أن كل ما سيقوله عن الجنة ، فإنها أعظم مما قال فقد أخرج البخاري ح 3244 بسندٍ له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : " قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . فاقرؤوا إن شئتم ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ ، وأن ما سيقوله عن الساعة من تخويف فإن الله قال ﴿ والساعة أدهى وأمر ﴾ .
وما سيقوله عن النار ، فإن الله قال ﴿ ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ﴾ ، وهكذا ...
وأسأل الله أن يكون ذلك في ميزاني يوم لقائه ، وأن يتجاوز بذلك عن سيئات أعمالي ، وأن يتقبل مني . فما كان من صواب فمن فضل الله عليَّ ، وما كان من خطأٍ فمن نفسي ومن الشيطان , وأسأل الله السلامة وحسن التوفيق ﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ .
كما أسأل ربي العظيم أن يوحد كلمة المسلمين دائماً ، وأن يصرف عنهم عدوهم ، وأن يجمع شتات المسلمين تحت راية واحدة ، وأن يصرف عنهم التمزق ، وأن يعْظُمَ في قلوبهم أمر ربهم وشعائره ، وأن يعود المتردد في الخطأ إلى عظيم الالتزام ، وإلى كريم الأخلاق . آمين .
هذا ولم يسعفني الوقت والجهد على مقابلة هذا الكتاب على مخطوطة ، فاعتمدت على نسخة مطبوعة لدار التراث طبعت سنة 1399 هـ ، فما صححه اعتمدته ، وبينت تصحيحه أو وصفه لما وجده على هامش الأصل عنده ، لأنه هو الذي اطلع على أصل الكتاب ، وقد أشرت إلى ذلك بالرمز ( أ ) .
هذا وقد رقمت الأحاديث للتوضيح ، مع وضع * أمام الرواية التي من قول الصحابي موقوفاً غير أنها من الروايات التي لا تروى من قبيل الرأي بل هي من قبيل ما يرجح رفعه . ووضعت ** أمام الرواية التي هي من قول تابعي فأقل وهي من قوله لأنها ليست من قبيل الرفع ، ولا أستطيع أن أقول أنها يرجح رفعها لأن بعد الصدر الأول دخلت روايات عن أهل الكتاب فاختلط الأمر . وراجع إن تيسر لك مقدمة كتابنا ( مختصر المصنف لعبد الرزاق ) أو ( مختصر مصنف ابن أبي شيبة ) .

والله الهادي إلى سواء السبيل .

وكتب
المستعصم بالله أبو هريرة
مصطفى بن علي بن عوض جعفر





كلمة عن المؤلف

الحارث بن أسد المحاسبي

نعته الذهبي في السير بقوله : الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية .
قال الخطيب : له كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة والرد على المعتزلة والرافضة .
قال الجنيد : خلف له أبوه مالاً كثيراً فتركه ، وقال : لا يتوارث أهل ملتين وكان أبوه واقفياً .
قال أبو الحسن بن مقسم : أخبرنا أبو علي بن خيران قال : رأيت المحاسبي معلقاً بأبيه ، يقول : طلق أمي فإنك على دين وهي على غيره .
قال الجنيد : قال لي الحارث : كم تقول عزلتي أنسي ! لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت لهم أنساً ، ولو أن النصف الآخر نأوا عني ما استوحشت .
قلت : المحاسبي كبير القدر وقد دخل في شيء يسير من الكلام فنقم عليه ، وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه وحذر منه .
قال سعيد بن عمرو البرذعي : شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال : إياك وهذه الكتب ، هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر تجد غنية ، هل بلغكم أن مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع .
قال ابن الأعرابي : تفقه الحارث وكتب الحديث وعرف مذاهب النساك ، وكان من العلم بموضع إلا أنه تكلم في مسألة اللفظ ومسألة الإيمان ، وقيل هجره أحمد فاختفى مدة .
ومات سنة ثلاث وأربعين ومئتين . ( أ. هـ الذهبي باختصار ) .
وقال ابن حجر في لسان الميزان : الزاهد المشهور . وفي التقريب قال : مقبول . ويعني بهذا اللفظ أن أحاديثه إذا تفرد بها لا تقوم مقام الحجة ، وإنما تصلح للاعتبار والشواهد .
قلت : وكتابه هذا بعيد عن شأن الصوفية وعلم الكلام ، وإنما هو موعظة .


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد القهار ، العظيم الجبار ، الكبير المتعال ، الذي جعلنا للبلوى والاختبار ، وأعد لنا الجنة والنار ، فعظم لذلك الخطر ، وطال لذلك الحزن لمن عقل وادَّكر ، حتى يعلم أين المصير ، وأين المستقر ، لأنه قد عصى الرب وخالف المولى ، وأصبح وأمسى بين الغضب والرضا ، لا يدري أيهما قد حل ووقع له ، فعظم لذلك غمّه ، وطال لذلك حزنه ، واشتد كربه ، حتى يعلم كيف عند الله حاله . فإلى الله فارغب في التوفيق ، وإياه فسل العفو عن الذنوب ، وبه فاستعن في كل الأمور .
فعجبتُ كيف تقرُّ عينك ، أو كيف يزايل الوجل والإشفاق قلبك ، وقد عصيتَ ربك واستوجبتَ بعصيانك غضبه وعقابه ، والموت لا محالة نازلٌ بك ، بكربه وغصصه ونزعه وسكراته ، فكأنك قد نزل بك وشيكاً سريعاً .
فتوهم نفسك وقد صُرعتَ للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربك ، فتوهَّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه ، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك ، فوجدتَ ألم جَذْبه من أسفل قدميك ، ثم تدارك الجذب واستحثَّ النزع ، وجُذبت الروح من جميع بدنك ، فنشطتْ من أسفلك متصاعدةً إلى أعلاك ، حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه ، وعمت آلام الموت جميع جسمك ، وقلبك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله عز وجل بالغضب أو الرضا ، وقد علمتَ أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشريين من الملَك الموكَّل بقبض روحك .
فبينا أنت في كربك وغمومك وألم الموت بسكراته وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين من ربك ، إذ نظرتَ إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن الصورة أو بأقبحها ، ونظرتَ إليه مادًّا يده إلى فيك ليخرج روحك من بدنك ، فذلتْ نفسك لمَّا عاينتَ ذلك وعاينتَ وجه ملك الموت ، وتعلق قلبك بماذا يفجأك من البشرى منه ، إذا سمعت صوته بنغمته : أبشر يا ولي الله برضا الله وثوابه ، أو أبشر يا عدو الله بغضبه وعقابه ، فتستيقن حينئذ بنجاتك وفوزك ، ويستقر الأمر في قلبك ، فتطمئن إلى الله نفسك ، أو تستيقن بعطبك وهلاكك ، ويحل الإياس قلبك ، وينقطع من الله عز وجل رجاؤك وأملك ، فيلزم حينئذ غاية الهمِّ والحزن أو الفرح والسرور قلبَك ، حين انقضتْ من الدنيا مدتك ، وانقطع منها أثرُك ، وحُملتَ إلى دار من سلف من الأمم قبلك .
فتوهم نفسك حين استطار قلبك فرحاً وسروراً ، أو مُلئ حزناً وعَبرة ، بفترة القبر وهول مطلعه ، وروعة الملكين وسؤالهما فيه عن إيمانك بربك ، فمثبت من الله جل ثناؤه بالقول الثابت أو متحيِّر شاكٌّ مخذول .
فتوهم أصواتهما حين يناديانك لتجلس لسؤالهما إياك ليوقفاك على مسائلتهما ، فتوهم جلستك في ضيق لحدك ، وقد سقطت أكفانك على حقويك ، والقطنة من عينيك عند قدميك .
فتوهم ذلك ثم شخوصك ببصرك إلى صورتهما وعظم أجسامهما ، فإن رأيتَهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة ، وإن رأيتَهما بقبح الصورة أيقن قلبك بالهلاك والعطب .
فتوهم أصواتهما وكلامهما بنغماتهما وسؤالهما ، ثم هو تثبيت الله إياك إن ثبَّتك ، أو تحييره إن خذلك .
فتوهم جوابك باليقين أو بالتحيُّر أو بالتلديد والشك ، وتوهم إقبالهما عليك إن ثبتك الله عز وجل بالسرور وضربهما بأرجلهما جوانب قبرك بانفراج القبر عن النار بضعفك . ثم توهم النار وهي تتأجج بحريقها ، وإقبالها عليك بالقول ، وأنت تنظر إلى ما صرف الله عنك فيزداد لذلك قلبك سروراً وفرحاً ، وتوقن بسلامتك من النار بضعفك .
ثم توهم ضربهما بأرجلهما جوانب قبرك ، وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك : يا عبد الله ، انظر إلى ما أعدَّ الله لك ، فهذا منزلك وهذا مصيرك .
فتوهم سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها ، وعلمك أنك صائر إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها .
وإن تكن الأخرى فتوهم خلاف ذلك كله من الانتهار لك ، ومن معاينتك الجنة وقولهما لك : انظر إلى ما حرمك الله عز وجل ، ومعاينتك النار وقولهما لك : انظر إلى ما أعدَّ الله لك ، فهذا منزلك ومصيرك . فأعظم بهذا خطراً ، وأعظم به عليك في الدنيا غمًّا وحزناً ، حتى تعلم أي الحالتين في القبر حالك ، ثم الفناء والبلاء بعد ذلك ، حتى تنقطع الأوصال ، فتفنى عظامك ، ويبلى بدنك ، ولا يبلى الحزن أو الفرح من روحك ، متطلعاً للقيام عند النشور إلى غضب الله عز وجل وعقابه ، أو إلى رضا الله عز وجل وثوابه ، وأنت مع توقع ذلك معروضة روحك على منزلك من الجنة أو مأواك من النار ، فيا حسرات روحك وغمومها ، ويا غبطتها وسرورها .
حتى إذا تكاملت عدة الموتى ، وخلت من سكانها الأرض والسماء ، فصاروا خامدين بعد حركاتهم ، فلا حسَّ يُسمع ، ولا شخص يُرى ، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله ، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم .
فتوهم كيف وقع الصوت في مسامعك وعقلك ، وتفهَّم بعقلك بأنك تُدعى إلى العرض على الملك الأعلى ، فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء ، لأنها صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء .
فبينا أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك ، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك ، قائماً على قدميك ، شاخصاً ببصرك نحو النداء ، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم .
فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم . فتوهم نفسك بعُريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق ، عراة حفاة ، وهم صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة ، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي ، والخلائق مقبلون نحوه ، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت ، ساعٍ بالخشوع والذلة . حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة ، قد نزع المُلك من مملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار ، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبُّرهم على عباد الله عز وجل في أرضه .
ثم أقبلت الوحوش من البراري وذُرى الجبال منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ، ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطية أصابتها . فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور . وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها ، منكسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار . وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه ، فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء ، واختلاف خلقهم وطبائعهم ، وتوحش بعضهم من بعض ، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور .
حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها ، واستووا جميعاً في موقف العرض والحساب ، تناثرت نجوم السماء من فوقهم ، وطمست الشمس والقمر ، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها . فبينا أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم ، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك ، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعك ، ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة ، والملائكة قيام على أرجائها وهى حافات ما يتشقق ويتفطر ، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها ، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة ، كما قال الجليل الكبير : ﴿ فكانت وردةً كالدهان ﴾ و ﴿ يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن ﴾ .
( قال المفسرون : إن المهل هي الفضة المذابة يخالطها صفرة ، وإن العهن هو الصوف المنفوش . وقوله : ﴿ وردة كالدهان ﴾ كلون الفرس الورد ) .
فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب ، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه .
فتوهم تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم ، منكسين لذل العرض على الله عز وجل .
1- حدثني يحيى بن غيلان الأسلمي قال : حدثنا رشدين بن سعد [ عن ] أبي السمح عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي r أنه قال : " لله مَلَك ما بين مواقي عينيه إلى آخر شفره مسيرة مائة عام " .
2- حدثني يحيى بن غيلان قال : حدثنا رشدين بن سعد [ عن ابن عباس ابن ميمون اللخمي ] عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي r أنه قال : " لله عز وجل ملك ما بين شفري عينيه مائة عام " .
فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أُمروا بهم ، ومسألتهم إياهم : أفيكم ربنا ؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم ، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض : سبحان ربنا ليس هو بينا ولكنه آت من بعد ، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذل يومهم .
فتوهمهم ، وقد تسربلوا بأجنحتهم ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم ، ثم كل شيء على ذلك ، وكذلك إلى السماء السابعة ، كل أهل سماء مضعفين بالعدد ، وعظم الأجسام ، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً .
حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين ، وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين ، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين ، فمن بين مستظل بظل العرش ، وبين مضحو بحر الشمس ، قد صهرته بحرها ، واشتد كربه وقلقه من وهجها ، ثم ازدحمت الأمم وتدافعتْ ، فدفع بعضُها بعضاً ، وتضايقت فاختلفت الأقدام ، وانقطعت الأعناق من العطش ، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم ، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء ، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه ، وبعضهم حِقْويْه ، وبعضهم إلى شحمة أذنيه ، ومنهم من قد كاد أن يغيب في عرقه ، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه .
3- عن [ سعيد بن عمير ] قال : جلست إلى ابن عمر وأبي سعيد الخدري ، وذلك يوم الجمعة ، فقال أحدهما لصاحبه : [ إني سمعت رسول الله r يقول : " أين يبلغ ] العرق من ابن آدم يوم القيامة ؟ فقال أحدهم : شحمة أذنيه ، وقال الآخر : يلجمه ، فقال ابن عمر : هكذا ، وخط من فيه إلى شحمة أذنيه ، فقال : ما أرى ذلك إلا سواء ) .
4*- عن خيثمة عن عبد الله قال : ( الأرض كلها نار يوم القيامة ، والجنة من ورائها يرون كواعبها وأكوابها ، والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليفيض عرقاً حتى يسيح في الأرض قامته ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ، وما مسَّه الحساب ) . قال : فقالوا : ممَّ ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : فقال : مما يرى الناس يلقون .
5- عن ابن عمر قال : قال رسول الله r : " إن الرجل ( وقال عليٌّ مرة : إن الكافر ) ليقوم يوم القيامة في بحر رَشَحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام " .
6- عن عبد الله رفعه إلى النبي r : " إن الكافر يُلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم ". ( وقال علي : من طول القيام . قالا جميعاً : ) " حتى يقول : ربِّ أرحني ولو إلى النار " .
وأنت لا محالة أحدهم .
فتوهم نفسك لكربك ، وقد علاك العرق وأطبق عليك الغم ، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب ، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء .
حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم ، فما ظنك بوقوفهم ثلاثمائة عام لا يأكلون فيه أكلة ولا يشربون فيه شربة ، ولا يلفح وجوههم روح ولا طيب نسيم ، ولا يستريحون من تعب قيامهم ونصب وقوفهم ، حتى بلغ الجهد منهم ما لا طاقة لهم به .
7**- عن قتادة أو كعب ، قال : ﴿ يوم يقوم الناس لرب العالمين ﴾ قال : ( يقومون مقدار ثلاثمائة عام ) .
8**- قال : سمعت الحسن يقول : ( ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربةً ، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش ، واحترقت أجوافهم من الجوع ، انصرف بهم إلى النار ، فسُقوا من عين آنية قد آن حرُّها واشتد نفحها ، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم ، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم ، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم ، كلهم يقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول : نفسي نفسي ، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها ) . وكذلك يقول الله عز وجل : ﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ﴾ .
فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم ، منفرد كل واحد منهم بنفسه ينادي : ( نفسي نفسي ) ، فلا تسمع إلا قول : ( نفسي نفسي ) .
فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه ، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم ، والخليل إبراهيم ، والكليم موسى ، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله عز وجل وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل ،كل ينادي Sadنفسي نفسي)، شفقاً من شدة غضب ربه ، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بحزنك وبخوفك ؟
حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا من اشتغالهم بأنفسهم ، أتوا النبي محمداً r فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها ، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه ، فأذن له ثم خر لربه عز وجل ساجداً ، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله ، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق ، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم ، والنظر في أمورهم .
فبينما أنت مع الخلائق في هول القيامة وشدة كربها منتظراً متوقعاً لفصل القضاء والحلول في دار النعيم أو الحزن ، إذ سطع نور العرش ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، وأيقن قلبك بالجبار ، وقد أتى لعرضك عليه حتى كأنه لا يعرض عليه أحد سواك ، ولا ينظر إلا في أمرك .
9**- عن حميد بن هلال قال : ذُكر لنا أن الرجل يُدعى يوم القيامة إلى الحساب فيُقال : يا فلان ابن فلان هلمَّ إلى الحساب ، حتى يقول : ما يراد أحد غيري مما يحضر به من الحساب .
ثم نادى : يا جبريل ائتني بالنار . فتوهمها وقد أتى جبريل فقال لها : يا جهنم أجيبي . فتوهم اضطرابها وارتعادها بفرقها أن يكون الله عز وجل خلق خلقاً يعذبها به ، فتوهمها حين اضطربت وفارت وثارت ، ونظرت إلى الخلائق من بعد مكانها ، فشهقت إليهم وزفرت نحوهم ، وجذبت خزانها متوثِّبةً على الخلائق غضباً لغضب ربها على مَنْ خالف أمره وعصاه .
فتوهم صوت زفيرها وشهيقها ، وترادف قصبتها ، وقد امتلأ منه سمعك ، وارتفع له فؤادك وطار فزعاً ورعباً ، ففر الخلائق هرباً من زفيرها على وجوههم ، وذلك يوم التنادي ، لما سمعوا بدويِّ زفيرها ولَّوْا مدبرين ، وتساقطوا على ركبهم جثاة حول جهنم فأرسلوا الدموع من أعينهم .
فتوهم اجتماع أصوات بكاء الخلائق عند زفيرها وشهيقها ، وينادي الظالمون بالويل والثبور ، وينادي كل مصطفى وصدِّيق ومنتخب وشهيد ومختار وجميع العوام : ( نفسي نفسي ) .
فتوهم أصوات الخلائق من الأنبياء فمن دون ، كل عبد منهم ينادي : ( نفسي نفسي ) ، وأنت قائلها ، فبينا أنت مع الخلائق في شدة الأهوال ووجل القلوب إذ زفرت الثانية فيزداد رعبك ورعبهم وخوفك وخوفهم ، ثم زفزت الثالثة فتساقط الخلائق لوجوههم وتشخص بأبصارهم ينظرون من طرف خاشع خفي خوفاً أن تلفهم فتأخذهم بحريقها ، وانتصفتْ عند ذلك قلوب الظالمين فبلغت لدى الحناجر كاظمين ، فكظموا عليها وقد غصت في حلوقهم ، وطارت الألباب ، وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين ، فلا يبقى رسول ولا عبد صالح مختار إلا ذهل لذلك عقله .
فأقبل الله عز وجل عند ذلك على رسله وهم أكرم الخلائق عليه وأقربهم إليه ، لأنهم الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ والحجة على عباده ، وهم وأقرب الخلائق إلى الله عز وجل في الموقف وأكرمهم عليه ، فيسألهم عمَّا أرسلهم به إلى عباده وماذا ردّوا عليهم من الجواب فقال لهم : ﴿ ماذا أجبتم ﴾ فردوا عليه الجواب عن عقول ذاهلة غير ذاكرة فقالوا : ﴿ لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ﴾ فأعظم به من هول تبالغ من رسل الله عز وجل في قربهم منه وكرامتهم ، حتى أذهل عقولهم ، فلم يعلموا بماذا أجابتهم أممهم .
10*- عن أبي الحسن الدمشقي قال : قلت لأبي قرة الأسدي : كيف صبر قلوبهم على أهوال يوم القيامة ؟ قال : إنهم إذا بُعثوا خُلقوا خلقةً يقوون عليها . قال أبو الحسن : قلت لإسحاق بن خلف : قول الله عز وجل للرسل : ﴿ ماذا أُجِبْتُم قالوا لا علم لنا ﴾ ، أليس قد علموا ما رُدّ عليهم في الدنيا ؟ قال : من عِظَم هول السؤال حين يُسألون طاشت عقولهم ، فلم يدروا أي شيء أجيبوا في الدنيا ، فهم صادقون حتى تجلَّى عنهم بعد ، فعرفوا ما أُجيبوا . قال : فحدثت به أبا سليمان فقال : صدق إسحاق ، هم في ساعتهم تلك صادقون ، حتى تجلَّى عنهم فعرفوا ما أُجيبوا ، فقال أبو سليمان : إذا سمعتَ الرجل يقول لصاحبه : بيني وبينك الصراط فاعلم أنه لا يعرف الصراط ، ولو عرفه ما اشتهى أن يتعلق بأحد ، فلا يتعلق أحد .
11**- عن مجاهد في قوله ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ قال : فيفزعون فيقولون : ﴿ لا علم لنا ﴾ .
عن مجاهد في قول الله عز وجل ﴿ وترى كل أمة جاثية ﴾ أي مستوفزين على الركب .
12- قال : سمعت عبد الله يقول : قال : رسول الله r : " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " .
13- قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله r : " من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ ﴿ إذا الشمس كورت ﴾ " .
14** - وعن عمر بن ذر قال : من غدا يلتمس الخير وجد الخير ، أعليَّ تحملون جمود أعينكم وقسوة قلوبكم ؟ احملوا العيَّ عليَّ إن لم أسمعكم اليوم واعظاً من كتاب الله عز وجل ، ثم قرأ : ﴿ إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت ﴾ حتى إذا بلغ : ﴿ علمت نفس ما أحضرت ﴾ ( أو قال : حتى ختمها ) ، قال : ثم قال : اسمعوا إليَّ يا عرض الدنيا ، فأين أنت منهم في ذلك الموقف ؟ هل تطمع أن يبلغ بك الهول ما بلغ منهم ، بل أعظم مما بلغ منهم ما لا يطيقه قلبك فلا يقوم به بدنك ، فهذه عقولهم ذاهلة في ذلك الموقف ، فكيف بعقلك وما حلَّ بك ، وأنت الخاطئ العاصي المتمادي فيما يكره ربك عز وجل ؟
فتوهم نفسك لذلك الخوف والفزع والرعب والغربة والتحير إذا تبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب والعشائر ، وفررت أنت منهم أجمعين ، فكيف خذلتهم وخذلوك ، ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والحفاظ أن تفرَّ من أمك وأبيك وصاحبتك وبنيك وأخيك ، ولكن عظم الخطر ، واشتد الهول فلا تلام على فرارك منهم ، ولا يلامون ، ولم تخصهم بالفرار دون الأقرباء لبغضك إياهم ، وكيف تبغضهم أو يبغضونك ، وكيف خصصتهم بالفرار منهم ، أتبغضهم وإنهم لهم الذين كانوا في الدنيا مؤانسيك وقرة عينك وراحة قلبك ، ولكن خشيتَ أن يكون لأحد عندك منهم تَبِعةٌ فيتعلق بك حتى يخاصمك عند ربك عزَّ وجلَّ ، ثم لعله أن يحكم له عليك فيأخذ منك ما ترجو أن تنجو به من حسناتك فيفرقك منها فتصير بذلك إلى النار .
فبينما أنت في ذلك إذا ارتفعت عنق من النار فنطقت بلسان فصيح بمن وُكِّلتْ بأخذهم من الخلائق بغير حساب ، ثم أقبل ذلك العنق فيلتقطهم لقط الطير الحب ، ثم انطوت عليهم فألقتهم في النار فابتلعتهم ، ثم خنست بهم في جهنم فيُفعل ذلك بهم ، ثم ينادي مناد : سيعلم أهل الجمع مَنْ أولى بالكرم ، ليقم الحمَّادون لله على كل حال ، فيقومون فيسرحون إلى الجنة ، ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل ، ثم بمن لم يشغله تجارة الدنيا ولا بيعها عن ذكر مولاه حتى إذا دخلت هذه الفرق من أهل الجنة والنار ، تطايرت الكتب في الأيمان والشمائل ونصبت الموازين .
فتوهم الميزان بعظمه منصوباً ، وتوهم الكتب المتطايرة وقلبك واجف متوقِّع أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك .
15- عن الحسن أن رسول الله r كان رأسه في حجر عائشة فنعس ، فتذكرتْ الآخرة فبكت ، فسالت دموعها على خدِّ النبي r فاستيقظ بدموعها ، فرفع رأسه فقال : " ما يبكيك يا عائشة ؟ فقالت : يا رسول الله تذكرتُ الآخرة ، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ قال : " والذي نفسي بيده في ثلاث مواطن فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه : إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل ، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله ، وعند الصراط " .
16*- وعن أنس بن مالك قال : ( يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفَّتي الميزان ويوكَّل به مَلكٌ ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوته يُسمع الخلائق : سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خفَّ ميزانه نادى الملك بصوته يُسمع الخلائق : شقى فلان ابن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً ) .
فبينا أنت واقف مع الخلائق إذ نظرت إلى الملك وقد أُمِرَ أن يحضر بالزبانية ، فأقبلوا بأيديهم مقامع من حديد ، عليهم ثياب من نار ، فلما رأيتَهم فهبتَهم طار قلبك فزعاً ورعباً ، فبينا أنت كذلك إذ نودي باسمك فنوديت على رؤوس الخلائق الأولين والآخرين : أين فلان ابن فلان ؟ هلمَّ إل ى العرض على الله عزَّ وجلَّ ، وقد وُكِّلَ الملائكة بأخذك حتى يقرِّبوك إلى ربك ، فلم يمنعها اشتباه الأسماء باسمك أن تعرفك لما ترى بك أنك المراد بالدعاء المطلوب ـ . قال : حدثنا طلحة بن عمرو قال : قال لي عطاء بن أبي رباح : ( يا طلحة ، ما أكثر الأسماء على اسمك ، وما أكثر الأسماء على اسمي ، فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان ، فقام الذي يُعنى لا يقوم غيره لما لزم قلبك من العلم ) ـ فوثبتَ على قدميك ، ترتعد فرائصك وتضطرب جوارحك ، متغيراً لونك فزعاً مرعوباً مرتكضاً قلبك في صدرك بالخفقان ، فلمَّا عاينتك الملائكة الموكَّلون بأخذك قد حلَّ بك الاضطراب بالارتعاد والمخافة علمت أنك أنت المراد من العباد ، فأهوت إليك بأيديها فقبضت عليك بعنفها ثم جذبتك إلى ربك عز وجل كما تجذب الدواب المنقادة ، تتخطى بك الصفوف محثوثاً إلى العرض على الله عزَّ وجلَّ والوقوف بين يديه ، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت مجذوب إلى ربك عزَّ وجلَّ فيما بينهم .
فتوهم حين وقفت بالاضطراب والارتعاد يرعد قلبك ، وتوهم مباشرة أيديهم على عضديك ، وغلظ أكفِّهم حين أخذوك ، فتوهم نفسك محثوثة في أيديهم ، وتوهم تخطيك الصفوف ، طائراً فؤادك مختلعاً قلبك ، فتوهم نفسك في أيديهم كذلك حتى انتهوا بك إلى عرش الرحمن ، فقذفوا بك من أيديهم ، وناداك الله عزَّ وجلَّ بعظيم كلامه : ادن مني يا ابن آدم فغيَّبك في نوره ، فوقفت بين يدي رب عظيم جليل كبير كريم بقلب خافق محزون ، وجل مرعوب ، وطرف خائف ، خاشع ذليل ، ولون متغير ، وجوارح مرتعدة مضطربة ، كالحمل الصغير حين تلده أمه ، ترتعد بيدك صحيفة محبَّرة لا تغادر بليَّة كسبتَها ولا مخبأة أسررتها ، فقرأت ما فيها بلسان كليل وحجة داحضة وقلب منكسر ، فكم لك من حض وخجل وجبن من المولى الذي لم يزل إليك محسناً ، وعليك ساتراً فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك ، وبأي قدم تقف غداً بين يديه ، وبأي نظر تنظر إليه ، وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل ومساءلته وتوبيخه ؟
فتوهم نفسك بصغر جسمك ، وارتعاد جوارحك ، وخفقان قلبك ، وقد سمعت كلامه بتذكير ذنوبك ، وإظهار مساوئك ، وتوقيفك وتقريرك بمخبَّآتك .
فتوهم نفسك بهذه الهيئة ، والأهوال بك محدقة من خلفك ، فكم من بلية قد نسيتَها قد ذكَّركها ؟ وكم من سريرة قد كنتَ كتمتها قد أظهرها وأبداها ؟ وكم من عمل قد ظننتَ أنه قد خلص لك وسلم بالغفلة منك إلى ميل الهوى عما يفسده قد رده في ذلك الموقف عليك وأحبطه بعد ما كان تأملك فيه عظيماً ؟ فيا حسرات قلبك وتأسفك على ما فرطتَ في طاعة ربك . حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر كل بلية ونشر كل مخباة ، فأجهدك الكرب ، وبلغ منك الحياء منتهاه ، لأنه الملك الأعلى فلا حياء يكون من أحد أعظم من الحياء منه ، لأنه القديم الأول الباقي الذي ليس له مثل ، المحسن المتعطف المتحنن الكريم الجواد المنعم المتطول .
فما ظنك بسؤال من هو هكذا ، وقد أبان عن مخالفتك إياه ، وقلة هيبتك له ، وحيائك منه ، ومبارزتك له ، فما ظنك بتذكيره إياك مخالفته وقلة اكتراثك في الدنيا بالطاعة له ، ونظرك إليه إذ يقول : يا عبدي ، أما أجللتني ، أما استحييت مني ، استخففت بنظري إليك ، ألم أحسن إليك ، ألم أنعم عليك ، ما غرك مني ، شبابك فيم أبليته ، وعمرك فيم أفنيته ، ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته ، وعملك ماذا عملت فيه ؟ .
17- قال : قال رسول الله r : " ما منكم من أحد إلا سيسأله رب العالمين ، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان " .
18- وقال : سمعت عدي بن حاتم قال : شهدتُ رسولَ الله rفي حديث له : " ليقفنَّ أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه ، فيقول : ألم أنعم عليك ، ألم آتك مالاً ؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أرسل إليك رسولاً ؟ فيقول : بلى ، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار ، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة " .
19*- وقال : سمعت عبد الله بن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث ، فقال : ( ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به ، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، ثم يقول : يا ابن آدم ما غرك بي ، يا ابن آدم ما عملت فيما علمت ، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ ) .
20*- وعن ابن مسعود أنه بدأ باليمين ، فقال : ( والله ما منكم من أحد إلا سيخلو به الله عز وجل كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، ثم يقول : يا ابن آدم ما غرك بي ، يا ابن آدم ما عملت لي ، يا ابن آدم ما استحييت مني ، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ، يا ابن آدم ألم أكن رقيباً على عينيك وأنت تنظر بهما إلى ما لا يحل لك ؟ ألم أكن رقيباً على أذنيك وأنت تستمع بهما إلى ما لا يحل لك ؟ ألم أكن رقيباً على لسانك وأنت تنطق بما لا يحل لك ؟ ألم أكن رقيباً على يديك وأنت تبطش بهما إلى ما لا يحل لك ؟ ألم أكن رقيباً على رجليك وأنت تمشى بهما إلى ما لا يحل لك ؟ ألم أكن رقيباً على قلبك وأنت تهم بما لا يحل لك ؟ أم أنكرت قربي منك وقدرتي عليك ؟ ) .
وأنت يا ابن آدم بين خطرين عظيمين : إما أن يتلاقاك برحمته ويتطول عليك بجوده ، وإما أن يناقشك الحساب ، فيأمر بك إلى الهاوية وبئس المصير .
21**- عن مجاهد قال : ( لا يزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ، وعن عمله ما عمل فيه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ) .
فما ظنك بنفسك وضعف قلبك ، والله عز وجل يكرر عليك ذكر إحسانه إليك ، ومخالفتك له ، وقلة حيائك منه ، فأعظم به موقفاً ، وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية ، وأعظم بما يداخلك من الحزن والغمَّ والتأسف على ما فرطت في طاعته وركوبك معصيته . فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء بدا لك منه أحد الأمرين : الغضب أو الرضا عنك والحب لك . فإما أن يقول : يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك ، وتقبلت منك يسير إحسانك ، فيستطير بالسرور والفرح قلبك فيشرق لذلك وجهك .
فتوهم نفسك حين قالها لك ، فابتدأ إشراق السرور ونوره في وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال ، والحسرة من ذكر مساوئ فعلك ، فاستبدلت بالكآبة والحزن سروراً في قلبك ، فأسفر وجهك وابيضَّ لونك .
فتوهم رضاه عنك حين سمعته منه ، فثار في قلبك فامتلأ سروراً وكدت أن تموت فرحاً وتطير سروراً ، ويحق لك ، فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل ؟ ! فو الله تعالى لو أنك مت فرحاً في الدنيا حين توهمت رضاه في الآخرة لكنت بذلك حرياً ، وإن كنت لم تستيقن برضاه في الآخرة ، ولكن آملاً لذلك ، فكيف بك مستيقناً له في الآخرة ، ولو توهمت نفسك ، وقد بدا لك منه الرحمة والمغفرة كنت حقيقاً أن تطير روحك من بدنك فرحاً ، فكيف أن لو قد سمعتَ من الله عز وجل الرضا عنك والمغفرة لك ، فأمن خوفك ، وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد ، ولأيقنت بفوزك ونعيمك أبداً [ لا يفنى ] ولا يبيد بغير تنقيص ولا تكذيب .
فتوهم نفسك بين يدي الله عز وجل وقد بدا لك منه الرضا ، وطار قلبك فرحاً ، وابيضَّ وجهك وأشرق وأنار وأحال عن خلقته ، فصار كأنه القمر ليلة البدر . ثم خرجتَ على الخلائق مسروراً بوجهٍ محبور قد حل به أكمل الجمال والحسن ، يسطع نوراً مشرقاً بتلألئه ، تتخطَّاهم بالجمال والحسن والنور والضياء ، كتابك بيمينك ، أخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق : هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً . لقد شهرك ربك عز وجل بالرضا عنك عند خلقه ، ولقد حقق حسن ظن الظانين ، وأبطل تهم المتهمين لك ، وإن في هذه المنزلة غداً على رؤوس الخلائق لعوضاً من المنزلة عند العباد بطاعته والتصنع لهم زهداً في المنزلة عندهم ، والتعظيم عندهم بطاعة ربه عز وجل بصدق معاملته وحده لا شريك له ، عوضك المنزلة الكبرى على رؤوس الخلائق ، فشهرك برضاه عنك وموالاته إياك .
فتوهم نفسك وأنت تتخطى الخلائق ، وكتابك في يمينك بجمال وجهك ونوره ، وفرح قلبك وسروره ، وقد شخصت أبصارهم إليك غبطة لك وتأسفاً على أن ينالوا من الله عز وجل ما نلت ، فليعظم من الله عز وجل في طلب ذلك أملك ورجاؤك ، فإنه عز وجل إن تفضل عليك نلت ذلك .
فهذا أحد الأمرين الذي أنت بينهما على خطر .
22- عن صفوان بن محرز قال : كنتُ آخذاً بيد عبد الله بن عمر ، فأتاه رجل فقال : كيف سمعت رسول الله rيقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله r يقول : " إن الله عز وجل يُدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس ، فيقول : يا عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم يا رب ، ثم يقول : يا عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم . ثم يُعطى كتاب حسناته ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ " .
23- قال : بينا عبد الله بن عمر يطوف بالبيت إذ عارضه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن ، كيف سمعت رسول الله r يقول في النجوى ؟ فذكر مثله .
24**- وقال سعيد : قال قتادة : ( لم يحزن يومئذ أحد فخفي حزنه على أحد من الخلائق ) .
25*- وعن ابن مسعود أنه قال : ( ينشر الله عز وجل كنفه يوم القيامة على عبده المؤمن ، ويبسط كفه لظهرها ، فيقول : يا ابن آدم هذه حسنة قد عملتَها في يوم كذا وكذا قد قبلتها ، وهذه خطيئة قد عملتَها في يوم كذا وكذا قد غفرتها لك ، فيسجد ، فيقول الناس : طوبى لهذا العبد الصالح الذي لم يجد في صحيفته إلا حسنة ـ أو قال : في كتابه ) .
26*- وعن عبد الله بن حنظلة قال : ( إن الله عز وجل يقف عبده يوم القيامة فيبدي حسناته في ظهر صحيفته فيقول له : أنت عملت هذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، فيقول : إني لن أفضحك به اليوم وإني قد غفرت لك اليوم فيقول عندها : ﴿ هآؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيهْ ﴾ حين نجا من فضيحة يوم القيامة ) . [/24]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://kkkk424.forumegypt.net
 
كتاب التوهم ( الجزء الأول )
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب التوهم ( الجزء الثانى)
» سنن الترمذى ( الجزء الأول )
» كتاب إرشاد طالب الهدى لإبن سحمان
» بيان الكفر فى حمل الأوراق الرسمية ( الجزء الأول )
» كتاب التجويد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحق المبين :: الكتب والمتون-
انتقل الى: